منذ نهاية القرن الماضي، شهد العالم الكثير من التحولات والخلافات والصراعات، وهو ما دفع بالعديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية إلى الاهتمام بالقضايا ذات الارتباط الوثيق بتعزيز العيش بين البشر والاتحاد والتماسك والتضامن والسلام مع الآخرين على اختلافاتهم والاستماع إليهم والتعرف عليهم واحترامهم لبناء عالم ينعم بالتسامح والوئام والتفاهم والتكافل.
- تنوع واختلاف
وطالما حظيت قيم التعايش باهتمام كبير من المجتمعات الإنسانية كأحد المفاهيم المحورية الهادفة لإدارة الاخت ف والتنوع في كافة ا المجتمعات الإنسانية بشكل سليم، وجعله سبيلاً للتعارف والتواد والتراحم بين أطيافه، والسعي ن لإيجاد المصالح المشتركة بينهم، وتحويله إلى قوة دفع لتعزيز التماسك المجتمعي وتحقيق السلام بين شعوب العالم، لاسيما في ظل تزايد وتيرة التحريض على العنف تحت مبررات دينية وعرقية.
وجاء اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لليوم العالمي للعيش معا في سلام الذي يحتفل به العالم يوم 16 مايو من كل عام للتأكيد على أهمية رمزية هذا اليوم، وضرورة ترسيخ ثقافة السلام مهما تنوعت الاختلافات بين البشر في المجتمع
الواحد.
وانطلقت فكرة هذا اليوم خلال الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في الجزائر يوم 8 ديسمبر 2017 ، لتصادق عليها الجمعية بالإجماع ) 172 دولة من إجمالي 193 (، وقد تمّ تقديم هذه الفكرة من طرف خالد بن تونس مؤسس الجمعية الدولية الصوفية العلوية ورئيسها الشرفي، خلال مؤتمر نظم بمدينة وهران الجزائرية سنة 2014 وقد منحه الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة وسام الاستحقاق الوطني وكرم من قبل كندا بوسام رجل سلام.
وأكدت الأمم المتحدة أن يومًا كهذا هو السبيل لتقوية جهود المجتمع الدولي لتعزيز الس م والتسامح ا والتضامن والتفاهم والتكافل، وأيضا للإعراب عن رغبة أفراده في العيش والعمل معً متحدين على اختلافاتهم لبناء عالم ينعم بالسلام وبالتضامن وبالوئام، ودعت الجمعية كافة الدول الأعضاء ومؤسسات منظومة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية والمجتمع المدني إلى الاحتفال بهذا اليوم وفقا للثقافة السائدة وغيرها من الظروف أو الأعراف في مجتمعاتها المحلية
والوطنية والإقليمية، بطرق منها التثقيف والاضطلاع بأنشطة بهدف توعية الجمهور، كما دعت إلى مواصلة تعزيز المصالحة من أجل المساعدة على تحقيق السلام والتنمية المستدامة.
- قيمة نبيلة
ويهدف اليوم إلى تعزيز قيم السلام والتسامح والتفاهم بين مختلف الثقافات والأديان، ويشجع هذا اليوم على تعزيز التعاون الدولي من أجل بناء مجتمعات أكثر سلامًا واستقرارًا، ا كما يركز هذا اليوم على أهمية التعليم والتوعية بضرورة السلام
والعيش المشترك، خاصة بين الشباب والأطفال، كذلك يسعى هذا اليوم إلى مكافحة كافة أشكال التمييز والعنصرية والكراهية من خلال تعزيز روح الأخوة والتسامح .
- أنشطة وفعاليات اليوم العالمي للعيش معًا في سلام.
تشمل الاحتفالات بهذا اليوم مجموعة متنوعة من الأنشطة والفعاليات مثل تنظيم مؤتمرات وورش عمل حول الس م وحل النزاعات إضافة إلى ا ن تقديم العروض الفنية والثقافية التي ترز أهمية التعايش السلمي، وكذلك تنظيم البرامج التعليمية
والتدريبية التي تركز على مهارات السلام والوساطة، كما تشمل إطلاق المبادرات المجتمعية والحملات التوعية التي تعزز الحوار والتفاهم بين مختلف الفئات الاجتماعية.
ويمثل اليوم العالمي للعيش معًا في سلام دعوة للبلدان لزيادة تعزيز ا المصالحة وللمساعدة في ضمان السلام والتنمية المستدامة بما في ذلك العمل مع المجتمعات المحلية والجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة من خلال تداب التوفيق وأعمال الخدمة وعن طريق التشجيع على التسامح والتعاطف بين الأفراد.
ويأتي الاهتمام بالتعايش اليوم في ظل تزايد وتيرة التحريض على العنف ، إذ إن تعزيز هذه القيمة الإنسانية النبيلة يسهم في بناء عالم أكثر أمانًا واستقرارًا، ويجعل من الاحتفال بهذا اليوم مناسبة سنوية لتجديد الالتزام بالسلام والتعاون الدولي، والتأكيد على أهمية العيش المشترك في عالم متنوع ومتعدد الثقافات، ومن هذا المنطلق أصبح التعايش أحد المفاهيم المحورية الهادفة لإدارة التنوع في المجتمعات الإنسانية .
- ثقافات وحضارات
وحتى نعطي مفهوم التعايش أبعاده بصورة واضحة، لابد من التعرف على ماهيته وتاريخه وكذلك أهميته. وقد عرفت البشرية التعايش منذ العصور القديمة، وإن لم تستخدمه بوصفه مصطلح ،ً نظرا لوجود التشابه بين أفراد المجتمع وحاجتهم إلى بعضهم البعض، ولا يقوم ذلك إلا بالتعايش فيما بينهم، ويشير مصطلح التعايش إلى أنه حالة تعيش فيها مجموعتان أو أكثر مع في نفس المنطقة الجغرافية، مع احترام كل منهم لاختلافات بعضهم البعض، وحل نزاعاتهم بطريقة سلمية، والميل
إلى التسامح والتعاون دون اللجوء إلى العنف، حيث يعتبر التعايش من القيم المهمة التي تحتاج إليها المجتمعات، خاصة في العصر الحديث.
ويقودنا البحث في هذا المصطلح إلى جملة من المعاني محملة بمفاهيم تتضارب فيما بينها، ولكن يمكن تصنيفها إلى مستويات ثلاثة الأول سياسي أيديولوجي والثاني اقتصادي، أما الثالث الذي نحن بصدده الآن فهو ديني ثقافي حضاري،
والمراد به أن تلتقي إرادة أهل الأديان والثقافات والحضارات المختلفة من أجل أن يسود الأمن والسلام العالم، وحتى تعيش الإنسانية في جو من الإخاء والتعاون والتوافقٍ داخل المجتمع على الرغم من اختلافاتهم المتنوعة .
فالتعايش تعبير يراد به خلق جوٍّ من التفاهم بين الشعوب بعيدًا عن الحرب والعنف، والتعايش احترام الآخرين وحرياتهم والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها، باعتباره ضمانة للمحافظة على كينونة ووحدة المجتمع والمساهمة في التفاعل البنّاء فيما بين المكونات الاجتماعية، وتجنيب المجتمعات الكثير من الصراعات الخفية أو المعلنة، والتعايش بهذا المعنى، يمثل الاعتراف المتبادل، والاحترام المتبادل، والمسؤولية المتبادلة بين مختلف المكونات والتعدديات، والانتقال بالمجتمعات من حال
المواجهة إلى حال أرقى من حيث التنوع والحضارة والسلام. وخلال العقدين الأخيرين، تزايد الاهتمام بقضية العيش المشترك بين الأديان ومختلف التوجهات الفكرية بشكل ملحوظ، وتطور من اهتمام نخبوي محصور إلى حد كب في أروقة المنظمات الدولية ر إلى شأن عام عالمي فرض نفسه على صفحات وسائل الإعلام الجماهيرية وشاشاتها، وانعكس بشكل ملحوظ على حوارات المجتمعات والأفراد وعلى المناقشات والسجالات الدائرة على صفحات المواقع الاجتماعية.
- المملكة أنموذجاً للتعايش
وفي ظل تلك المجتمعات المتنوعة الديانات والثقافات والتي ينتمي ي أفرادها إلى أصول مختلفة في الثقافة والدين، أصبح التعايش من الأمور المهمة التي تساعد في انتشار الأمن والرخاء والسلام بين سكان الدول ا نفسها وكذلك بين الشعوب وبعضها وذلك عبر توفير بيئة متعايشة تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتسعى لمكافحة أسباب الفرقة والاختلاف والوقوف بحزم في وجه ما يهدد الوحدة الوطنية.
وانطلاقا من تلك الأهمية، سعت المملكة إلى تحقيق التعايش والتلاحم ب كافة مواطنيها، ن فباتت نموذجا عالميا في التعايش والحوار بين كافة أطياف وشرائح المجتمع، مما جعل منها تجربة رائدة وفريدة من نوعها على مستوى العالم.
فإضافة لدعمها لمشاريع إقليمية وعالمية في مجال التسامح و التعايش المجتمعي ، عملت المملكة على تبني ودعم مبادرات ومشاريع وطنية كان أبرزها إنشاء مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري ، انطلاقا من جعله المواطنة والتعايش أساسا
ترتكز عليه حواراته.
فبات تعزيز الوحدة الوطنية وحماية النسيج المجتمعي من خلال ترسيخ قيم التنوع والتعايش والتلاحم الوطني هي الرسالة التي يعمل عليها المركز بدأب وفاعلية، في وقت تواجه فيه المملكة الكثير من التحديات ر الإقليمية والدولية التي تضع
المجتمع السعودي أمام مسؤوليته في الحفاظ على قيم الوحدة والثوابت الوطنية وتحقيق التلاحم الوطني وتقوية أواصر التفاعل الاجتماعي بن مختلف الشرائح الوطنية، وهو ما جعل الكثير من المشاريع والمبادرات تنطلق نحو تحقيق الهدف
الهام والنبيل بالمحافظة على تماسك المجتمع في ظل الاضطرابات التي تعيشها الكثير من الدول.
وانطلاقًا من رسالته التي تستهدف نشر ثقافة التعايش والسلام، عمل المركز على تدعيم مبدأ التعايش المجتمعي بن مختلف الشرائح والفئات الفكرية والاجتماعية والعمرية وذلك عبر تنفيذه للعديد من البرامج والمشاريع في جميع مناطق المملكة والي ترجمت بوضوح مبدأ التنوع واحترام الآخر وراعت حرية التعبر عن الرأي وأتاحت فرصة التشاور والتواصل الفكري، تحقيقا لرؤية المملكة 2030 التي أكّدت أهمية وضرورة نشر ثقافة التعايش والتواصل الحضاري بين مختلف الشعوب والمجتمعات، إضافة
إلى تعزيز التواصل الحضاري بين الشعب السعودي وشعوب العالم، وتقديم الصورة الحقيقية للمملكة أمام العالم، فضلاً عن تقديم نماذج تعكس إسهامات المملكة في المجال الحضاري، وتعزيز مفاهيم التعايش والتسامح والسلام.
شارك
يجب ان تكون مسجلا لكي تتمكن من التعليق